منير مراد ..بساطة الفطرة وبواكير التحديث




ظل إيمان الفنان متعدد المواهب منير مراد بمحاولات التجديد في الغناء العربي من خلال ما كان يعتقده عبر فهم مستنير من أن التجديد يجب أن يتم في إطار من المزج القائم علي الاندماج العضوي وعبر امتزاج الأبعاد الموسيقية الشرقية ومثيلتها الغربية وبحيث تكون النتيجة طبيعية جديدة ورؤية مختلفة عن تلك المحاولات التي تقوم علي الخلط المشوه الذي لا يقوم علي اندماج عضوي، ويغلب الميل لأعماق انتماء موسيقي علي الانتماء الآخر، ومن دون قيام النسب والمعايير السليمة لقيام مثل هذا الاندماج العضوي الذي يوائم بين الأعماق المختلفة ويجتهد بالعلم من دون إخلال بالنظرة السليمة والصلة الوثيقة بالموروث و التراث.


ومنير مراد فنان متعدد المواهب، عمل مطرباً وممثلاً وملحناً واشتغل ايضاً بالإخراج السينمائي وعرف الشهرة في معظم هذه المجالات لكنه حقق شهرته الأعظم في مجال التلحين وحيث كان أحد أهم رموز التلحين والغناء في سنوات الخمسينيات والستينيات والسبعينيات من القرن الحالي وقبل أن يرحل عن الحياة في أول أعوام الثمانينيات وهو في الحلقة السادسة من عمره وحيث تصادف رحيله عن الحياة مع فترة اغتيال الرئيس المصري السابق محمد أنور السادات، فلم يحصل منير مراد علي حقه في النشر الذي يصحب لحظات الوداع.





لقد امتاز مراد بصوت من تلك التصنيفات التي بها قدر من النغمة المنسجمة وقدر من الصوت الجهير المصحوب ببحة صريحة، ومن خلال أداء فيه بساطة الفطرة وتلقائية الغناء بغير كلفة وأناقة التقديم، وحيث تميز غناؤه في الأعمال التي بقيت من غنائياته بالقدرة علي التعبير الجيد وتصوير اللحب والتمكن اللغوي والنطق الواضح السليم والتحكم في الغناء من دون عناء.





ولأنه فنان متعدد المواهب غني بصوته ومثل في السينما الاستعراضية ووضع مئات الألحان وبعدما بدأ حياته الفنيه مساعداً للإخراج في عدد من أشهر أفلام نهايات الأربعينيات وبدايات الخمسينيات ومنها تلك الأعمال التي قدمتها ملكة الأغنية السينمائية شقيقته ليلي مراد وسندريللا السينما الغنائية ونجمة أشهر ألحانه المطربة شادية.





تعرف منير مراد إلي درجات السلم الموسيقي وصعد عليها من خلال تربية الأب الفنان القديم المطرب و الملحن زكي مراد وشقيقته المطربة المميزة ليلي مراد وحيث كانت الشهرة من نصيبها فقط فمن بين أبناء زكي مراد وحيث كانت من آل مراد غيرهما أسماء أخري طرقت أبواب الفن علي استحياء ولم تحقق النجاح نفسه وفي الذهن أسماء سميحة وملك ومراد وإبراهيم زكي مراد.





عرف منير مراد من خلال استيعابه لدور والده زكي مراد وزملائه من الرواد أن موسيقانا العربية موسيقي لحنية تقوم علي المقامات وهي الطبيعة المميزة للمقام في اللحن العربي. وحيث الخط اللحني الأصيل والدراية بالتلوينات المقامية التي يتطور معها التناول الموسيقي عبر الدورالانفعالي واجتهادات التلوين الموسيقي التي لا تتخلي عن الطابع العربي من أجل إحداث قفزة التطوير بالإمساك بأشكال المعالجة التوزيعية المتعددة.





ومنير مراد الذي نتذكر في قرائتنا لسطور إبداعاته بعض غنائياته التي قدمها بصوته وعبر ألحانه الاستعراضية في أغاني "أنا وحبيبي " – "يا مصر قومي وانهضي" – "قرب شوف" – "ما حدش شاف" – "هنا القاهرة" – "أنا متأسف" – "نهارك سعيد" – "إحنا ثلاثة" وغيرها، هذا الملحن المطرب كان من بين أشهر من جمعوا في فهمهم في التلحين و الأداء لقدرات المزج بين خصال الغناء العربي وألوان وصور الغناء الغربي وأذكر كيف أخبرني منير مراد عن اعتزازه خلال سنوات شهرته بتحليل عن ألحانه كتبه في بعض مؤلفاته الأستاذ الكبير كمال النجمي في الستينيات، وقال فيه: "إن منير مراد يفهم جيداً في الموسيقي الغربية ويتذوق عن حب وعلم الموسيقي العربية ولهذا أمكنه أن يقدم أفضل مزيج من لقاء موسيقي الغرب بموسيقي الشرق في ألحانه الناجحة والغزيرة و المتقنة".





لقد لحن منير مراد لمعظم الأصوات المعروفة في الغناء العربي باستثناء زعيمة الغناء الراحلة أم كلثوم التي كثيراً ما عبرت عن إعجابها بالألوان الغنائية التي يقدمها، وخصوصاً ألحانه التي أسهمت في تقديم اللون المميز والشخصية الصوتيه للمطربة شادية، وقد كان لمنير مراد علامات ناجحة مع كل صوت غني له فقد قدم لشادية من أغانيها الخفيفة عشرات الأعمال الشهيرة مثل "يا سارق من عيني النوم" والأغاني العاطفية الناضجة مثل "إن راح منك ياعين" والوطنية مثل "بلد السد" وقدم لعبد الحليم حافظ من أغانيه المرحة "ضحك ولعب وجد وحب" ومن أغانيه العاطفية الناضجة "بحلم بيك" وقدم لشقيقته ليلي مراد أغنية "يا طبيب القلب" .







قدم منير مراد عشرات الألحان الناجحة مثل "شغلوني عيونك" لفايزة أحمد – "يعني وبعدين" لنجاح سلام – "آه من الصبر" لشريفة فاضل – "غلاب الهوي" لمها صبري – "سوق علي مهلك" لصباح – "رمش الغزال" لمحمد قنديل – "قسمة ونصيب" لهاني شاكر – "من يوميها" لوردة الجزائرية – "أنا أحبك" لعايدة الشاعر – "ابعد عن الحب" لعادل مأمون – "شفت الحب" لمحرم فؤاد – "مرجيحة الحب" لليلي جمال – "كعب الغزال" لمحمد رشدي – "تسلم لقلبي" لهدي سلطان – "ابعد يا حب" لعفاف راضي –" أبو شامة اسكندراني" لطروب
وفي الألحان التي غناها بصوته وفي ألحانه لغيره من الأصوات الأخري تميز منير مراد بمقدمات أغانيه وحيث كان يعتبر المقدمة الموسيقية جسراً يصل بالمستمع إلي المعني ومن هنا كان يرفض المقدمات الطويلة ولم يسرف في توظيف المقدمات الموسيقية الطويلة إلا في عدد قليل من ألحانه



ومثلما الحال في أغاني "قلبي علي قلبي" – "بحلم بيك" – "بأمر الحب" – "يا مصر قومي وانهضي" – "بلد السد" – "ضحك ولعب" – "عنيه الاتنين" وحيث كان المحتوي الموسيقي لهذه المقدمات من روح الأغنية ذاتها، فقد كان يهتم في أغانيه باللحن الأساسي "الميلودي" وبالشكل الغنائي والمحتوي "الفورم" ومن هذا الفهم كان منير مراد من بين قلة كانت تعرف مزج الغناء الشرقي والغناء الغربي في إطار واحد وهو مزج واع غير هذا الخلط المشوه الذي نعاني سخافاته في بعض من غناء هذه الأيام .





وغير بعيد عن الاجتهاد التحديثي والمزج الواعي بين طبيعة الغناء العربي وأشكال التعبير في الغناء العربي نجد للفنان منير مراد اتجاهات تجديدية ومحاولات تفوقت علي ما ظهر قبلها فهو مجدد في لون "الدويتو" وعلي النحو الذي جمع عبد الحليم حافظ و شادية في "تعالي أقولك" – "إحنا كنا فين" – "حاجة غريبة" كما جمع شادية مع فاتن حمامة في أغنية النجاح "آلو .. آلو" وكمال الشناوي في "سوق علي مهلك" وكمال حسني في "لو سلمتك قلبي" كما جمع صباح وكمال الشناوي في "زي العسل" وغير ذلك من الغنائيات التي قدمت الحوار الغنائي بأسلوب يختلف عن التقسيم التقليدي للغناء بين العناصر المشتركة في العمل .







واهتمام منير مراد بجديد التناول جعله يلحن أغنية عاطفية كاملة علي الإيقاع المصمودي الذي يناسب الغناء الديني ونجح في ذلك من خلال أغنية ليلي مراد "أنا زي ما أنا وأنت بتتغير"، كما كان أول من استعمل بعض الآلات الموسيقية في تنفيذه لعدد من ألحان أغانيه ومثلما كان في استخدام الجيتار "الهوياني" في أغاني " يا دبلة الخطوبة" – "مقدرش أحب اثنين" – " خمسة في ستة" – "واحد – اتنين" ،



أيضاً وقلب هذا الانحدار في استخدام الأشكال الأوروبية في الغناء العربي ومن خلال فهم القشور والتناول السطحي وعلي نحو ما نسمعه في محاولات الخلط المشوه في الموجات الأخيرة، نجح منير مراد في السبعينيات في تقديم الأغنية الشرقية العصرية وحيث قدم الإيقاعات الأوروبية في قالب شرقي "راصد" وعلي نحو ما نسمعه في أغنية "قسمة ونصيب" التي استخدم فيها لأول مرة آلة "الفجوت"،



وما فعله في هذه الأغنية قدمه أيضاً في الستينيات في أغان مثل "الليل موال العشاق" – "عيني" – "رحالة" _ "أغراب" وغيرها ، كما كان لمنير مراد أيضاً حرصه علي تقديم ألوان غنائية تميز تجربته وعلي نحو تراه في أغاني المناسبات السعيدة التي قدم فيها ألوان البهجة والسرور في أغان مثل "وحياة قلبي وأفراحه" – "ضحك ولعب" – "دقوا الشماسي" – "ماما يا حلوة" - "دبلة الخطوبة" – "علي عش الحب" – "يا دنيا زوقوكي" ..



فقد كان يؤمن بالكلمة الجيدة الواعية والبسيطة والمؤثرة، وكان ينتمي لاتجاه التلحين يعرف أهمية الكلمة في قيام العمل الغنائي المكتمل حتي لو صاغ خاطرته اللحنية – في بعض الأحيان – من دون كلمات مؤلفة ومن هنا كانت نجاحاته مع أبرز من وضعوا كلمات أغانيه أمثال فتحي قورة وجليل البنداري وحسين السيد ومرسي جميل عزيز ومجدي نجيب وعبد الرحيم منصور ومحمد حمزة ومحمد علي أحمد وغيرهم .







ظهر منير مراد في السينما مطرباً وممثلاً في عدد من الأفلام أولها الفيلم رقم 600في سجل أفلام السينما العربية المصرة وهو فيلم "أنا وحبيبي" الذي لعبت بطولته شادية مع زينات صدقي وعبد السلام النابلسي ومحمد التابعي مع إخراج كام التلمساني عام 1953 وفيلم "نهارك سعيد" مع سعاد ثروت ومختار عثمان من إخراج فطين عبد الوهاب في عام 1954 ، وفيلم "موعد مع إبليس" مع زكي رستم وكريمان ومحمود المليجي من إخراج كامل التلمساني في عام 1955 .





ولأن النجم يلمع بموهبته ومن خلال ما يعكسه عليه الآخرون من خبرات وملامح وتأثيرات فقد ظل منير مراد يفاخر بـأساتذته معلناً عن أهمية تفكيره الذي يقوم علي أن من ليس له ماض فلا حاضر له ولا مستقبل ايضًا ولهذا كان يعرف أهمية هذا المعني في سلم القيم ويذكر أساتذته بالتقدير وفي الصدارة منهم والده المطرب الملحن زكي مراد وفنان الشعب سيد درويش ورياض السنباطي وعبد الوهاب وفريد الأطرش وأحمد صدقي ومحمود الشريف ومحمد فوزي، كما كان يعتز بالانتماء إلي الجيل الذي قدم كمال الطويل صاحب المدرسة الجديدة واللهجة الجديدة في اللحن العربي ومحمد الموجي صاحب اتجاهات الأصالة اللحنية وبليغ حمدي الذي عرف كيف يستفيد من النغمات الشعبية والإيقاعات البلدية في تقديم أغنية جميلة وحديثة.





وبجانب ألحانه في غنائياته الفردية والثنائية والجماعية والاستعراضية وضع منير مراد موسيقي خالصة في عدد من المقطوعات الموسيقية التي رقصت عليها مشاهير نجمات الرقص والاستعراض في السينما العربية أمثال تحية كاريوكا وسامية جمال ونعيمة عاكف وثريا سالم ورجاء يوسف وصفاء أبو السعود ونيللي ولبلبة وغيرهن، والمقطوعات التي رقصت عليها نجمات الاستعراض،



كانت لمنير مراد إسهامات أخري معروفة في تقديم الاسكتش الفكاهي ولأن خصوبة العطاء الفني يندر أن تقوم من دون وجهة نظر ومن دون ثقافة عامة وأخري متخصصة من دون تصور فكري يبدو اللون الذي قدمه منير مراد وأخلص له هو نفسه اللون الذي كان يعيش له ويعتقد فيه، فقد ظل هذا الفنان متعدد المواهب يؤمن بالأغنية القصيرة ويبشر بها حتي في زمن انتصار الأغنية الطويلة، كان يري أن الأغنية القصيرة هي تعبيرالعصر ولم يكن يرحب بالأغنية الطويلة في غير غناء سيدة الغناء أم كلثوم التي آمن بأن هذه الألوان من غناء الحفلات ارتبطت بأم كلثوم وغنائها العبقري الذي يصعب علي غيرها حتي وإن ظهر الأمر سهلاً في محاولات البعض غناء الأعمال الطويلة من دون دراية بمفاتيح لغز عبقرية أم كلثوم في الأداء والتصرف،



ومن خلال هذا الفهم أصر منير مراد علي تمسكه بما يؤمن به ولم يلحن أياً من الأغاني الطويلة لأنه كان يصر علي أن الأغنية الطويلة لفظت أنفاسها بغياب أم كلثوم وأن المستمع لن يقبل من غيرها الدخول في هذه الدائرة التي ارتبطت بمقدرات أم كلثوم وعبقريتها الصوتية وأنفاسها الممتدة وغنائها الطازج وتصرفها الغنائي الذكي وأدائها القادر غير المسبوق وغير الملحوق أيضاً.







وأذكر للفنان متعدد المواهب منير مراد ونحن بصدد هذه القراءة في سطور عطاء موهبته التي لم تنل من التقدير ما تستحث، إنني لم ألحظ علي هذا الفنان الناجح أيام متابعته لكتاباتنا وكتابات غيرنا ونحن نتعرض بالنقد لأعماله أي رد فعل غير مناسب ومن مثل ردود الأفعال الحمقاء التي تصدر عن البعض من مثل تلك التي تبدو علي ملامح بعض محدودي الثقافة ممن قادتهم الظروف للاشتغال بفنون الموسيقي والغناء.







مازلت أذكر لهذا الفنان "رحمة الله عليه" سطور برقية له يرد فيها علي كلمة – تبدو قاسية – كتبتها عن أحد ألحانه في سنواته الأخيرة عندما قال متواضعاً وموافقاً علي ما ذهبت إليه قائلاً: إن الفنان يحتاج للكلمة الناقدة الواضحة والموضوعية حتي وإن كانت علي غير ما تشتهي السفن عندما تأتيها الرياح المفاجئة، وفن الغناء أكثر الفنون احتياجاً لمن يأخذ بيد من يخلص له ويتفرغ لأعماله حتي يتخلص هذا الفن من الكثير من الشوائب التي لحقت به وبصفحته وخصوصاً في الأعوام الأخيرة !!



من موسوعة أشهر مائة في الغناء العربي ـ الجزء الثاني
للكاتب والناقد الكبير / محمد سعيد

2 التعليقات:

  1. Unknown يقول

    رحل عن عالمنا المغفر له بإذن الله خالى الكاتب و الناقد الكبير الاستاذ/ محمد سعيد يوم الثلاثاء 23/12/2015 عن عمر 69 عام


    Unknown يقول

    مساء النور أبحث عن أجزاء هذه الموسوعة الثلاثة للناقد الراحل محمد سعيد الله يرحمه. هل من مساعدة؟

    خالص موّدتي


إرسال تعليق

Bookmark and Share